خوف عبدالرحمن بن عوف من الله
يعتبر الصحابي الجليل عبدالرحمن بن عوف واحداً من أبرز الشخصيات التي لاقت احتراماً وتقديراً كبيرين في تاريخ الإسلام، ليس فقط لما حققه من إنجازات عظيمة في ميادين الجهاد والمال، بل كذلك لما تجسد في شخصيته من تقوى وخوف من الله عز وجل. إن خوف عبدالرحمن بن عوف من الله كان من أبرز سمات شخصيته، إذ كانت حياته مثالاً حياً لتطبيق التقوى في كل جوانب الحياة. هذا المقال يتناول جانباً من حياة هذا الصحابي العظيم وكيف تجلى خوفه من الله في سلوكياته وأفعاله، حيث يمكننا أن نستمد من سيرته العطرة دروساً قيمة في كيفية التعامل مع المال، والناس، والتقوى.
1. الخلفية التاريخية لعبدالرحمن بن عوف
عبدالرحمن بن عوف هو أحد العشرة المبشّرين بالجنة، وكان من كبار الصحابة الذين أسهموا بشكل كبير في نشر الدعوة الإسلامية. وُلد في مكة قبل الهجرة، وكان من أسرة قريشية ثرية. وقد أسلم في وقت مبكر، وكان من أول من آمنوا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم، فكان له دور كبير في دعم الدعوة وحماية الرسول الكريم.
على الرغم من غناه الفاحش وحاله المرموق، إلا أن عبدالرحمن بن عوف ظل محتفظاً بتواضعه الكبير، وكان خير مثال على كيفية التفريق بين متاع الدنيا وعبادة الله تعالى. في حديثنا عن خوفه من الله، نجد أنه لم يكن خوفاً من عقاب الله فحسب، بل كان خوفاً نابعا من معرفته بعظمة الله وحقيقة الدنيا الفانية.
2. خوف عبدالرحمن بن عوف من المال
يعتبر المال من أكبر مغريات الحياة، وهو ما قد يؤدي أحياناً إلى فتن الإنسان ويشغله عن طاعة الله. ورغم أن عبدالرحمن بن عوف كان من أثرياء الصحابة، إلا أن هذا المال لم يكن له سوى وسيلة للتقرب إلى الله، وكان ينفقه في سبيل الله بكل سخاء. نُقل عن عبد الرحمن بن عوف أنه كان يُقدّر المال تقديراً كاملاً ويُدرك تماماً أنه مجرد وسيلة لا غاية في حد ذاتها.
من أبرز القصص التي تُبرز خوفه من الله في تعامله مع المال، عندما خرج إلى أرض الشام، وهو محمّل بالثروات، فمر بجانب مجموعة من الناس، وقال: “لئن تركت مالاً بعدي لآثمٌ”. وكان يشير بذلك إلى أنه يخاف أن يُحاسب يوم القيامة على مال كان بيده، فكان دائم الخوف من أن يُسأل عن هذه الأموال التي جمعها، والتي قد تكون سبباً في عذابٍ له إن لم يُنفقها في وجه الله.
وكان هذا هو سر سعيه المستمر لأن يكون ماله في خدمة الآخرين، ففي وقت الجدب، كان يتقدم القوم بماله. كما كان من السباقين في الحروب، حيث قدّم أموالاً عظيمة لدعم جيش المسلمين في معركة بدر وغيرها من المعارك الهامة. ومن ذلك يمكن استنتاج مدى تفانيه في خدمة الله، وعدم انجرافه وراء المال والشهوات.
3. عبادته وخوفه في الصلاة
من أقوى ما يتجلّى فيه خوف عبدالرحمن بن عوف من الله هو كيفية تعامله مع العبادة، وبالأخص الصلاة. كان معروفًا عن عبدالرحمن بن عوف أنه كان يُكثر من الصلاة في الليل، وفي إحدى المرات، نقل عنه أن أحد الصحابة رآه يصلي في الليل وكأن قلبه يهتز من خشية الله، حتى تساقطت دموعه، وصوته كان متقطعاً من شدة الخوف والخشية.
لقد كان يُصلي صلاة الليل بانتظام، ويُقيم الليل حتى ساعات متأخرة، وكانت تجري على لسانه الأدعية التي تُظهر مدى تواضعه وخوفه من عذاب الله. في صلاة الفجر، كان لا يُحب أن يطيلها، خوفاً من أن يشعر بأن وقته قد مر في غير طاعة الله.
كانت هذه العبادة التي لم يتوانَ في القيام بها، مصحوبةً بالتواضع الجمّ أمام الله عز وجل. لم يُسجّل في تاريخ حياته أنه كان مغروراً أو متكبراً، بل كان دائمًا ما يظهر زهده وورعه في معاملاته اليومية.
4. خوفه من الزلل والنفاق
عبدالرحمن بن عوف لم يكن يخشى الموت فحسب، بل كان يخشى النفاق، الذي هو أفظع من الموت. وعندما شعر في قلبه بأنه قد يتسرب له بعض الفتور أو الرياء، كان يعزم على التوبة والرجوع إلى الله على الفور. كانت مشاعره مليئة بالخوف من أن يُبتلى بالرياء في عمله، أو أن يكون ذلك سببًا في سوء الخاتمة.
من القصص الشهيرة في هذا السياق، أن عبد الرحمن بن عوف كان دائمًا ما يتدبر معاني الآيات القرآنية المتعلقة بالخوف من النفاق. وقد ورد عن بعض الصحابة أنهم سمعوه يبكي وهو يقرأ قوله تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَيُدْخِرُونَهَا لِمَا لَا يُؤْمِنُونَ فِي اللَّهِ وَيَوْمٍ مَّا يَسْلَىٰهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ” (التوبة: 34). فكان هذا الذكر بمثابة تذكير له بأهمية إخلاص النية لله وتجنب أي شكل من أشكال النفاق.
5. وفاته ورؤيته في المنام
بعد وفاة عبدالرحمن بن عوف، جاء العديد من الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلبون من النبي أن يُصلي عليه، وكان من بينهم أنس بن مالك، الذي نقل عن الرسول أنه قال: “من أراد أن ينظر إلى رجلٍ من أهل الجنة فلينظر إلى عبد الرحمن بن عوف”. وقد جاء هذا التأكيد من النبي صلى الله عليه وسلم، بسبب تقوى عبدالرحمن وورعه، وسعيه المستمر للتقرب إلى الله.
عندما توفي، كان الناس يذكرون محاسنه في الصلاة عليه، ويُتداول بين الأجيال قصة خوفه العميق من الله، وكيف أن هذا الخوف قد حمله على العمل المستمر من أجل مرضاة الله في حياته. كانت وفاته بعد أن قام بالكثير من الأعمال الجليلة، ونشأ من خلالها احترام عميق تجاه شخصيته في نفوس المسلمين.
6. الدروس المستفادة من خوف عبدالرحمن بن عوف من الله
لقد كانت حياة عبدالرحمن بن عوف نموذجًا حيًّا للورع والخوف من الله. فقد تفرّغ في حياته لتقوى الله تعالى رغم مكانته الرفيعة في المجتمع الإسلامي، ونؤمن أن هذا هو السبب الذي جعل الله يرفع مكانته في الدنيا والآخرة. يمكن أن نستفيد من حياته في عدة جوانب:
-
التعامل مع المال: كان عبدالرحمن بن عوف مثالاً في كيفيّة التعامل مع المال دون أن يُغرى به، فقد استخدم ثروته في سبيل الله ولم يسرف فيها.
-
عبادة الله: كان يخشى أن يكون من المقصرين في عبادته، فكان دائمًا يتقي الله في صلاته وذكره.
-
التوبة والرجوع إلى الله: كان يحرص على التوبة من أي ذنب أو خطأ صغير قد يعلق في قلبه، وهو ما يجب أن نحرص عليه في حياتنا.
-
التواضع: رغم غناه ومكانته، ظلّ متواضعًا يتعامل مع الناس بإنصاف.
لقد كانت حياة عبدالرحمن بن عوف تَجسيداً حقيقياً للخشية من الله في كل فعلٍ وقول، ولقد تركت هذه الحياة إرثاً كبيراً في قلوب المسلمين، مازال يعيش معهم حتى يومنا هذا.
